يحكى أن شيخا عجوزا طاعنا في السن كان يعيش برفقة زوجته المسنة في كوخ حقير، يقع منعزلا في أطراف بلدة صغيرة.. كان اسمه السيد عمر، وزوجته اسمها السيدة فاطمة .. كان المسكينان يعانيان من الفقر والعوز، ويكابدان أمراض الهرم والشيخوخة، ولم يكونا يملكان من الدنيا إلا عنزة حلوبا يقتاتون على حليبها، وبستانا صغيرا قرب كوخهم يزرعون فيه بعض الخضراوات، يأخذون من محصولها حاجتهم الضرورية، وما فاض عنها كانوا يبيعونه في سوق البلدة الأسبوعي مقابل دريهمات قليلة..
ذات يوم
أصيبت عنزتهم الوحيدة بمرض شديد بعد أن أكلت وريقات من شجرة سامة تدعى
"الدفلة" حين كانت ترعى في سفح
الجبل، وتسببت لها في تسمم شديد في أمعائها .. بقيت على حال مرضها ثلاثة أيام
تتلوى من الألم، وفي النهاية نفقت المسكينة ، فكان وقع المصيبة على العجوزين شديد
أليم، فهي كانت لهم مورد رزق مهم ، كما أنهم كانوا يحبونها كفرد من العائلة ..
********************
وبينما كان الشيخ عمر يجر خطواته في سوق البلدة حزينا
مكتئبا، حاملا هموم الدنيا فوق ظهره، قابله رجل طويل القامة، جميل الطلعة، أنيق
الهندام، تبدو على قسمات وجهه سمات الطيبوبة والرجولة، فبادره بالتحية والسلام ثم
سأله، كيف حالك أيها الرجل الطيب، مالي أراك حزينا مهموما كأن كربا قد أصابك، فلم
نعهدك يوما إلا مرحا مبتسما، هل ألم بك أمر أحزنك؟ رفع الشيخ بصره إليه وأجابه وقد اغرورقت عيناه
بالدموع، نعم يا سيدي، لقد ألمت بنا مصيبة كبيرة، فقد فقدنا عنزتنا الوحيدة التي
كنا نشبع بها بطوننا الجائعة، ولم يبق لنا إلا رحمة الله، رد عليه الرجل الطيب
مستدركا، نعم رحمة الله موجودة ولا تنحل عن المؤمنين قط، يكفي أن تكون في قلوبنا
الثقة كاملة في رب العباد ،ولا ننجر إلى اليأس والقنوط.. بعد ذلك دس يده في جيب
سرواله وأخرج صرة نقود ووضعها في يد العجوز وقال له، خذ هذا المال واشتري به عنزة
أخرى، وامسح هذا الحزن من قلبك، وأرح نفسك من هم التفكير في هذا المصاب، نظر الشيخ
إلى كل ذلك المال وهو يقلبه بأصابعه فقال وقد ازداد انفعاله وتأثره، ولكن هذا كثير
يا سيدي، ما ذنبك أنت، أنت أولى مني بمالك، أجابه الرجل الشهم، بل المال مال الله
وأنت أولى به مني، ولا تفكر لأجلي، فهذا المال هو حقك، لأنه مقدار زكاتي على ما
أنعم الله به علي من نعم، خرجت به هذا الصباح ونيتي أن أعطيه لمن يستحقه، والحمد
لله كثيرا أن أعثرني عليك وأعثرك علي حتى يكون من نصيبك، فأنت في هذا السوق أشد
الناس حاجة إلى هذا المال.. جعل الشيخ يبكي في تأثر شديد و رفع أكفيه إلى السماء
قائلا ، اللهم لك الحمد
ولك الشكر على نعمك التي لا تعد ولا تحصى، ثم التفت إلى الرجل وعانقه بحرارة ودعا
له دعوات من القلب وشكره على حسن صنيعه .
********************
لم يجد الشيخ صعوبة في إيجاد عنزة حلوبا جيدة في السوق،
فخير الله وفير، وخزائن الله لا تنقطع، وقد كان المال وفيرا ويكفيه لشراء أحسن ما
في السوق..
كم كانت فرحته عارمة وشوقه جارف لكي يزف إلى زوجته
ورفيقة دربه البشرى، كان يعلم أنها ستفرح فرحا عظيما بمجرد أن ترى العنزة الجميلة
الممشوقة، الممتلئة الضرع التي بين يديه، وستتحول كآبتها إلى بهجة، وغمها إلى حبور وسرور ..
عزم أن يعود بسرعة ودون انتظار أي
لحظة .. ورغم أن رجليه لم يكونا يطاوعانه على المشي السريع ، فقد بدل مجهودا كبيرا
وهو عائد إلى منزله يحث الخطى بالعنزة التي اشتراها، جعل نفسه ينقطع
وكتفاه تئنان من الألم من جراء سحبه للحبل المربوط في عنق العنزة التي تقاومه
بينما كان يجرها، وكان كل همه أن يصل إلى بيته في زمن وجيز لكي يزف إلى زوجته
الخبر السعيد.. قطع المسافات تلو المسافات، والعرق يتصبب غزيرا فوق جبينه، إذ كانت
شمس ذلك اليوم حارقة، والجو خانق مما زاد من عذابه، ولكن قلبه كان مستريحا ونفسه
راضية..
مضى وقت فوجد نفسه قد خرج من آخر تجمع سكني في البلدة،
سلك طريقا ملتويا خاليا من المارة وجعل يبتعد رويدا رويدا إلى أن وصل إلى ظل شجرة،
فتوقف عندها لكي يستريح ويسترد أنفاسه.. وبينما هو كذلك إذ قفز شاب على حين غرة من
أعلى الشجرة ، ففزع الشيخ وتراجع إلى الخلف بسرعة، وتفرس فيه جيدا فوجده شاب أسمر
البشرة، مفتول العضلات، رث الثياب، أغبر أشعث، فقال له بنبرة حذرة مستنكرة، من
أنت، لم يجبه الشاب بكلمة ولكنه أخرج من حزام سرواله خنجرا، وفي حركة سريعة و
مدروسة وضعه في عنق الشيخ وشده من جلبابه بقوة وقال له، ستسلمني هذه العنزة وتذهب إلى حال سبيلك وإلا ..
وإلا قطعت عنقك .. أخذ العجوز يتوسل إليه ويرجوه أن يتركه لحاله، وأخبره أنه فقير
جدا، وأن هذه العنزة ما هي إلا صدقة الكرام المحسنين بعثها الله له بعد أن أقفلت
في وجهه كل الأبواب، لم يأبه الشاب اللص لتوسلاته، ولم يلتفت إلى أي كلمة مما قال،
بل أحكم قبضته أكثر على خناقه ثم دفعه بقوة إلى الأرض، فشجت رأس المسكين بعد أن
ارتطمت بصخرة حادة ، تأوه في ألم شديد للحظات ثم ارتخى برأسه إلى الخلف ودخل في
غيبوبة ..
اندفع اللص نحو العنزة بسرعة وحملها فوق كتفيه ثم راح
مهرولا ناحية الأحراش حيث الأشجار الكثيفة، ولم تمض إلا هنيهة حتى اختفى في وسطها
واندثر كأن الأرض انشقت وابتلعته، بينما العجوز المسكين ظل مرميا على الأرض مغشيا
عليه ودمه ينزف..
بقي على حالته فترة من الزمن، إلى أن مر رجل من أمامه
راكبا على بغلته، فما إن رآه حتى هرع إليه مذعورا ، فتعرف عليه بسرعة وقال متأسفا،
لا حول ولا قوة إلا بالله، كيف وقع لك هذا أيها الشيخ الطيب، من فرط بك هكذا ..
حمله بسرعة فوق بغلته ثم اقتاده على عجلة إلى مشفى البلدة ..
هنالك قدم له الممرضون الإسعافات
الأولية ونظفوا له جرحه، وبعدها جاء الطبيب، فقام بتقطيب الجرح في سبع غرز، وبعد ذلك ضمده بعناية،
وتركه يستريح في فراشه، ثم التفت إلى الممرضة ومد لها قارورة دواء صغيرة وقال، إذا
استفاق، اسقيه من هذا الدواء المهدئ لكي يخفف ألمه، ولا تتركوه يغادر المشفى حتى
تعود إليه عافيته ..
ظل المسكين غارقا في غيبوبته طوال اليوم ، وأسدر الليل
ستاره على البلدة وهو لا يزال على حالته لم يستفق بعد ، أما زوجته السيدة فاطمة
فقد أمضت يومها في قلق شديد بسبب تأخره ،
فهو لم يفعلها مرة في حياته، وتسلطت عليها كل وساوس الدنيا وحولت يومها إلى قطعة
من العذاب .. حين رأت أن الوقت قد تأخر كثيرا ، عزمت على الخروج للبحث عنه ..
وبينما كانت تهم بالتقاط عكازها، باغتها شاب يعرفهم وأخبرها بما أصاب زوجها، ثم
أخذ بيدها وهو يحمل قنديلا مضيئا، وسارا يعبران الطرقات وقد قاربت الشمس على
المغيب.. وصلا إلى المشفى، ودلفا إلى الغرفة برفقة إحدى الممرضات، وما إن وقع
بصرها على زوجها الغارق في غيبوبته حتى أخذت تبكي بكاء مريرا وتتأوه في حرقة وألم وتندب
حظهما العاثر، فعمد الشاب والممرضة إلى تهدئتها، ومدا لها كوبا من الماء حتى
تستعيد هدوءها ، ولكن هيهات ..
أمضت الليلة إلى جانب زوجها، لم
يغمض لها جفن، ظلت تراقبه طوال الليل، وتدعو الله بتضرع أن يعيد له صحته وعافيته
..
عندما قاربت الشمس على الشروق،
غفت عينها قليلا ولم تمكث إلا قليلا حتى أيقظها سعال صادر من زوجها.. تنبهت ونهضت
من كرسيها متوكئة على عكازها واقتربت منه، فوجدته قد فتح عينيه، وجعل ينظر إلى ما
حوله مستغربا ومتألما في الوقت ذاته، قال لها، أين نحن، ردت عليه، نحن في المشفى،
ماذا حدث لك يا زوجي الحبيب، من فعل بك هذه المصيبة.. نظر إليها مطولا وقد شعر بدوار
وزغللة في عينيه ثم أخبرها بمشقة عن كل ما حدث له، فأخذت تدعو باكية على ذلك اللص
المجرم الذي حول حياتهما إلى جحيم، وتسأل الله أن يخلص البلدة من شره .. وفجأة قال
لها بصوت متقطع ضعيف يشوبه الأسى، أريد أن أموت على سريري .. ضربت على صدرها بقوة
وقالت فأل الله ولا فألك، ماذا تقول يا زوجي، حفظك الله من كل شر، سوف تتعافى إن
شاء الله.. رد عليها مطمئنا، الموت علينا حق، وما هو بشر إلا لمن لم يعد له عدة وكان
من الظالمين.. إني أشعر باقتراب أجلي، وإن كان في قلبك محبة لي فلا تدعيني أموت في
هذا المشفى.. أحب أن أموت في بيتي وبين أشيائي وقرب مصلاي ومصحفي..فما كان منها
إلا أن وعدته وسكاكين الحزن والغم تمزق أحشاءها بأن تأخذه إلى المنزل..
ظل السيد عمر طريح الفراش لأيام، وازداد عليه المرض،
فنحل جسمه وغارت عيناه وأحاطت بهما هالة سوداء، وعظمت عليه الآلام ، فعلم الجميع
ممن يعرفه أنه قد أصيب بمرض الموت وأنه يحتضر..
كانت آخر كلماته وهو يتوادع مع زوجته الوداع الأخير في
بيته، أن لا تنساه من دعائها، وأن تحافظ على صلواتها وأذكارها، وهي ترد عليه فقط برأسها مجيبة وقد خنقتها
العبرات ولم تعد تقوى حتى على الهمس.. ثم رفع سبابته إلى الأعلى وتشهد، ثم فاضت روحه إلى بارئها، وظلت عيناه مفتوحتين
معلقتين بالسماء..
صرخت صرخة كبيرة مدوية .. عمر عمر .. لا تتركني يا عمر،
لمن تتركني وحيدة في هذا العمر.. ودخلت في نوبة من البكاء المرير، ولم يمض إلا وقت يسير حتى دخل إلى الغرفة عدد من
الجيران الذين سمعوا صراخها، فجعلوا يـتأسفون ويحوقلون، و طفقوا يهدئونها
ويواسونها، وقام أحدهم بإقفال عيني الفقيد، ثم رفع الغطاء فوق رأسه..
كان يوما حزينا
مؤلما .. كل من كان يعرف الشيخ عمر تأثر لموته كثيرا ودعا له بالرحمة والغفران،
والفوز بالجنة.. فقد كان رجلا طيبا كريما خلوقا محبوبا من الجميع، كان صاحب نكته،
خفيف الظل، دائم المرح، ولم يؤد أحدا قط من معارفه وجيرانه ..
مرت مراسيم الدفن، وأقاموا له
جنازة كبيرة، حضرها الداني والقاصي، وقد تكفل المحسنون ممن يعرفونه بكل المصاريف
والواجبات.. وأطعم الطعام صدقة على روحه، وقرأ القرآن وألقيت المواعظ. كان يوم موت
الشيخ عمر يوما مشهودا من أيام الله.. فقد فقدت الأرض رجلا صالحا من أطيب خلق الله
.
********************
أما صاحبنا السارق، وهو شاب في مقتبل عمره، مقطوع من
شجرة، ليس له أهل ولا عائلة، واسمه سعيد، ويعد واحدا من شرار البلدة، فقد أخذ
العنزة التي سرقها من الشيخ عمر إلى سوق بلدة مجاورة فقام بعرضها للبيع هناك ..
وكان من حظه أن وجد من يشتريها منه بسعر جيد، باعها من فوره ثم ولى عائدا إلى
بلدته .. لم يصل إلا مع غروب الشمس، فقرر أن يحتفل بغنيمته ويمضي ليلة من أجمل
ليالي عمره..
عاد إلى مسكنه الواقع في أحد الأحياء الفقيرة.. وهو
عبارة عن بيت واحد، تعلوه الوساخة في كل مكان ،
وتعمه الفوضى في كل ركن منه ، مبعثر الأثاث، ، اختلطت فيه أواني الطبخ مع
الملابس، والأحذية مع الأدوات التي يستعملها لتنظيف الأرضية .. دخل فاستبدل ملابسه
المتسخة المغبرة بملابس أنظف، ثم أخذ معظم النقود التي تحصل عليها من بيع العنزة
المسروقة وترك فقط ما يكفيه لدفع إيجار البيت، وما سيحتاجه ليوم من مصاريف الأكل
والشرب .. فانطلق قاصدا حانة البلدة، وكان ينوي أن يسكر حتى الثمالة.. هناك التقى
بثلاثة من أصدقائه الأشرار، فقال لهم، الليلة مشاريبكم على حسابي، أريد أن نمضي معا
ليلة من ألف ليلة وليلة .. وقد وفى بما وعد، فقضوا ليلتهم في شرب الخمور والضحك
والمجون واللعب، وخسر كل ماله الحرام فلم يبق له منه فلس واحد، وبلغ بهم السكر
مبلغا شديدا حتى صاروا يعربدون في المكان ويصرخون ويرمون بالكراسي.. فطلب منهم
صاحب الحانة في لهجة صارمة متوعدة أن يغادروا الحانة في الحال وإلا قام بتبليغ
الدرك، فخرجوا يتعثروا في خطواتهم والجميع ينظر إليهم بسخط وتأفف.. تفرقوا وذهبوا
كل واحد منهم في سبيله يجره أقدامه جرا ..
********************
لم يستيقظ سعيد إلا بعد آذان العصر.. فتح عينيه بصعوبة،
وارتسمت على وجهه علامات الإرهاق الشديد، والشعور بالألم، فقد أحس كأن رأسه يكاد
ينشق من الصداع.. نهض متثاقلا وذهب ليغسل وجهه... نظر إلى المرآة فتذكر كل ما حصل، ومرت في مخيلته كل الأحداث التي مضت كشريط سينمائي، أحس بنوع من الندم لم يشعر
به طوال حياته، وتملكته حالة من عذاب الضمير جعلته يضرب على رأسه ويتأوه قائلا، ما
الذي فعلته أنا، كيف فرطت بذلك العجوز المسكين، لم يكن يملك من الدنيا إلا تلك
العنزة، لماذا لم أستجب لتوسلاته وآهاته.. أي إنسان حقير أنا ..
ظل على حال ندمه ذاك طوال يومين، لا يفعل شيئا سوى
التفكير فيما اقترفته يداه، وصورة ذلك الشيخ الطريح على الأرض لا تفارق ذهنه .. فهو رغم تعوده على السرقة منذ فترة طويلة، إلا
أنه لم يؤد إنسانا من قبل .. ولم يستعمل العنف ضد أحد قط .. ولم يمض إلا وقت يسير
حتى علم من بعض جيرانه أن السيد عمر، ذلك الرجل الطيب المحبوب من الجميع، قد توفي و ترك خلفه زوجة عجوزا لا أولاد لها ولا
أقارب، فشعر كأن سكينا حادا ينغرز في قلبه،
وأخذته صدمة عنيفة حطمت ما تبقي له من قوة ..
أمضى وقتا طويلا وهو يلوم نفسه ويؤنبها، بل ويسبها
ويلعنها.. لم يستطع تصديق ما حدث، كيف يكون السبب في مقتل رجل ضعيف بريء.. هل هو
نذل إلى هذه الدرجة، هل هو سيء خبيث الطوية إلى هذا الحد، حاول في مرات عدة أن
يقنع نفسه أنه لم يقصد قتله أو حتى إصابته في جسده بأدنى إصابة، وأن جرمه الوحيد
هو سرقة العنزة .. ولكن هل يريحه مثل هذا التبرير .. هيهات هيهات .. يعرف جيدا أنه
اعتدى عليه وهاجمه كالصاعقة، ولم يرحم ضعفه وحاجته .. الآن بدأ يشعر أنه على شفير
الجنون، يوشك أن يفقد عقله..
وبينما هو
مستغرق في هلاوس نفسه، إذا به يسمع الآذان لصلاة المغرب، أتاه في صوت رخيم عذب كأنما
يسمعه للمرة الأولى في حياته.. أول ما خطر على عقله في تلك اللحظة ، أن يجيب داعي
الله، ويذهب إلى المسجد للصلاة، ويلتمس هناك بعض النور لعله يخرج من جحيم عذاب
ضميره ..
اغتسل بسرعة
وتوضأ وضوءا غير متقن، لا ترتيب فيه ولا تمام، وارتدى حُلُّة على شكل جلباب من
الثوب الخفيف، ثم انطلق إلى المسجد في خطى سريعة حتى يلحق الصلاة.. وجد المصلين قد
أتموا الركعة الأولى.. فدخل معهم في الصلاة في آخرالصف ، وكانت هذه صلاته الأولى
منذ صباه ..
فرغوا من الصلاة، ومن أذكار ما بعد الصلاة، فاستدار نحوهم الإمام في وقار وتؤدة، ثم شرع يلقي
في الدرس الذي تعود أن يلقيه ما بين المغرب والعشاء في معظم أيام الأسبوع، وتحلق من
بقي في المسجد من حوله.. كان درسا عن التوبة .. اقترب سعيد من مكان جلوس الإمام، ثم
أصاخ بسمعه، وجعل يتفرس ملامحه ويتابع كل كلمة تخرج من فمه، ويلتقطها بلهفة كأنه
يخشى أن تتوه منه.. إنه يتحدث عن التوبة.. يتحدث عني.. يا إلهي لقد جعلتني آتي إلى
بيتك ، وأحضر هذا الدرس الذي يتحدث عن المذنبين.. ويفتح لهم أبواب الرجاء في
الخلاص..ولكن هل أنا منهم.. أنا قاتل ..قاتل.. هل لي من توبة.. هل لي من توبة يا
ربي .. بينما هو في هذا الحوار الداخلي، سمع الشيخ وهو يسترسل في رواية حديث طويل
عن توبة رجل قتل تسعا وتسعين نفسا.. اسمعوا أيها الأفاضل، يا من تقنطون من رحمة
الله..
اسمعوا وعوا، ها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
في حديث نبوي شريف :
(كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ
تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ
عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا
فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: لَا. فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً.
ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الْأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ
فَقَالَ: إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ:
نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ, انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ
كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدْ اللَّهَ
مَعَهُمْ وَلَا تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ. فَانْطَلَقَ
حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ
مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلَائِكَةُ الْعَذَابِ, فَقَالَتْ مَلَائِكَةُ
الرَّحْمَةِ: جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلًا بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ, وَقَالَتْ
مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ. فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ
فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ. فَقَالَ: قِيسُوا مَا بَيْنَ
الْأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ, فَقَاسُوهُ
فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ
الرَّحْمَةِ. )
فسبحان
الله ما أكرمه على عباده، يتوب عليهم مهما فعلوا من المعاصي والذنوب إذا رجعوا
إليه وأخلصوا التوبة، فهذا الرجل فعل فعلاً عظيماً وهو القتل وليس قتل رجل أو
رجلين إنه قتل مائة رجل، لكن الله -عزوجل- قبل توبته
وغفر ذنبه وأدخله جنته عندما علم صدق توبته.
ما
إن أتم الشيخ كلمته حتى نهض سعيد على حين غرة من الناس، وراح يهرول مبتعدا عن المجلس، و جلس في أبعد مكان مقابل المحراب، مستندا بظهره إلى الحائط.. ثم جعل يدعو والدموع
تنهمر من مقلتيه سخية : ـــ ربي الغفور..ربي
الرحيم..جئت إليك تائبا فاقبل توبتي، جئت إليك نادما فاقبل ندمي ، أعلم أن ذنوبي
عظيمة ولكن طمعي في عفوك أعظم ..يا ربي الكريم .. أعاهدك ألا أفارق طريقك..أعاهدك
ألا أحيد عن صراطك المستقيم ما حييت..
وكانت هذه البداية ..
********************
منذ ذلك اليوم أضحى سعيد مواظبا على الصلوات مع الجماعة
في المسجد، وعلى الدروس التي يلقيها الإمام، لا ينفك عن الحضور إليها مهما كانت
ظروفه ..
سأله ذات ليلة بعد فترة تردد
طويلة، يا شيخي الفاضل، هل يغفر الله لعباده كبائر الذنوب، فأجابه الشيخ، نعم يا
ولدي، إن كانت التوبة نصوحا، فالله يغفر الذنوب جميعا إلا الشرك، ولكي تعود صفحة العبد المذنب بيضاء ناصعة، يتحتم
عليه أن يكثر من الأعمال الصالحة، ومثلما كان يرتكب عظائم الذنوب والسيئات وهو
جاهل، فعليه بعد التوبة أن يسارع إلى عظائم الصالحات والخيرات، لأن الحسنات يذهبن
السيئات ..
نزل هذا الجواب على قلب سعيد بردا وسلاما، وشعر بسكينة
وطمأنينة عظيمة احتلت كل شغاف قلبه، ثم راح يفكر،
أي عمل عظيم يمكنه القيام به ليكفر عنه المصيبة
الكبيرة التي اقترفتها يداه.. تذكر أن الشيخ عمر ترك من خلفه زوجة مسنة، وقد بقيت
وحيدة في دنياها، لا معيل لها ولا أبناء تعتمد عليهم.. وهنا لاحت له فكرة عظيمة
جليلة ..
نهض من فوره وغادر المسجد ..
********************
طرق الباب طرقتين خفيفتين، وانتظر أمام الباب.. لم يجبه
أحد، ثم أعاد الطرق بقوة أكبر، ونادى بصوت يشبه الصياح، خالتي فاطمة، هل أنت هنا..
فتح الباب فأطلت امرأة هرمة برأسها من ورائه، وقالت بصوت واهن، من أنت يا ولدي
وماذا تريد، أجابها، أنا رجل مدين لزوجك المرحوم بدين كبير وجئت إليك أريد
سداده..قالت له تفضل يا ولدي إلى الداخل وأخبرني، دخل في أدب كبير وخطوات مترددة..
فجلس على أريكة خشبية متهالكة.. ثم قال لها، يا خالتي، الدين الذي أدين به للشيخ
عمر ليس مالا ولا متاعا، هو شيء لا أستطيع إخبارك به، ولكني سوف أسدده لك بكل ما
أستطيع وما أملك..قالت كيف يا ولدي.. فأجابها، أعلم أنك امرأة مسنة وليس لديك أولاد
ولا أقارب يعتنون بك، وأعلم أن الحياة قد أصبحت شاقة عليك كثيرا ومضنية بعد وفاة
زوجك المرحوم، لأجل هذا أريدك أن تعتبريني ولدك منذ اليوم.. وأنا سوف أقوم على
خدمتك ورعايتك كابن لك إلى أن يفرق بيننا الموت ..
نظرت إليه طويلا مندهشة وقالت، سبحان
حكمتك يا إلهي.. قبل أن تحضر إلي بلحظات كنت أشكو إلى ربي حالي وأقول، كيف سأستمر
في هذه الحياة وأنا امرأة عجوز ضعيفة وحيدة، ليس لي أحد يعيلني ويقوم على خدمتي..
يا ولدي ما اسمك، أجابها ، سعيد.. ابنك سعيد، فقالت، انظر يا سعيد، أنت فتى طيب،
سمات وجهك تقول ذلك، وما تود فعله معي عمل صالح لا يقوى عليه إلا الأخيار من عباد
الله الصالحين .. ثم أردفت سائلة، أخبرني يا بني هل لك عمل أو وظيفة تسترزق منها
في هذه الحياة ؟ أجابها متمتما وقد تفاجأ
تماما من سؤالها، في الحقيقة يا خالتي حاليا ليس لدي أي عمل، ولكن .. ولكن سأجده
حتما قريبا، قالت، اسمع يا ولدي.. أنا أملك بستانا صغيرا بالجوار.. كان زوجي رحمه
الله يزرع فيه ما نحتاجه من خضروات وأعشاب .. إنه لك الآن..
اعمل فيه بجد ونشاط وخذ من غلته ما يسد حاجتك، فقاطعها، سوف أعمل فيه إن شاء الله
بكل طاقتي، فأنا أملك خبرة لا بأس بها في الزراعة، ولن ينقصنا أي خير..واسمحي لي
أن أناديك منذ اليوم بأمي..فأنا يتيم الأب والأم، ولم أر أمي في حياتي أبدا..
أشفقت عليه وشعرت نحوه بحنو كبير حتى دمعت عيناها فنهضت إليه وقبلت رأسه وقالت أنا
أمك منذ اليوم ولن أحرمك من حناني ودعواتي..فقبل يدها ثم استأذنها وانصرف متحاشيا
إظهار دموعه ..
********************
منذ ذلك اليوم ، لم يعد لسعيد من شغل إلا خدمة أمه
فاطمة، ينظف لها البيت، يغسل لها ملابسها، يعمل في البستان ساعة أو ساعتين، ويحضر لها ما
تحتاج من السوق، وينفد لها كل ما تطلبه منه دون تردد أو تقاعس، حتى صار عكازها
الذي تتوكأ عليه، وجدارها الذي تستند إليه، وشجرتها التي تستظل بظلها..
وهي أضحت تراه ملكا بعثه الله لها
من السماء ، فهي لم تعد تشعر منذ قدومه
إليها بالوحدة ولا بالتعب ، بل أصبحت حياتها سهلة مريحة لا نغص فيها ولا عذاب..
ولم تلهه مسؤوليته تجاه أمه عن
أداء صلواته الخمس في المسجد جماعة وحضور الدروس ما بين المغرب والعشاء، والتطوع من
حين لآخر لتنظيف المسجد وكنس أرضيته.. حتى أصبح وجها مألوفا في المسجد، وهفت إليه
قلوب الناس .. وتكونت لديه عدد من الصداقات مع بعض طلاب الشيخ الإمام الذين يحرصون
دائما وبانتظام على حضور مجالسه وأخذ العلم على يده .. فساعده كل هذا لكي يندمج
بقلبه ونفسه مع أجواء المسجد الروحانية النقية الطاهرة، ويتخلص من أدران المعاصي
والشرور التي علقت بنفسه جراء السنوات التي أمضاها في الإجرام .. ذات ليلة، أعرب لشيخه عن رغبته في حفظ القرآن
الكريم ، وطلب منه راجيا أن يساعده ويعينه لحفظه، لاسيما وأنه لا يتقن اللغة
العربية جيدا، فأجابه فرحا متحمسا، ما شاء الله يا ولدي ، هذه اللهفة في عينيك
وهذا الشوق الجارف لحفظ كتاب الله يجعل المرء يشعر بالفخر والغبطة تجاهك ..
سنعمل برنامجا يا بني، وسنخصص
قدرا محددا من الآيات تقوم بحفظه كل يوم، وأنا سأعينك لتضبط قراءتك وحفظك وفق
قواعد وأحكام الترتيل، وسوف تجدني دوما بجانبك إلى أن تتم الحفظ إن شاء الله.. انحنى
سعيد على يد شيخه يقبلها، وشكره من أعماق قلبه.
********************
مضت ثلاث سنوات، قضاها سعيد في خدمة أمه، لم يتوان يوما
واحدا عن أداء واجبه تجاهها، وحافظ على عهده لها بأن يكون سندها في الحياة ولا
ينقصها شيء في حضوره
أبدا ..وبدل
خلالها مجهودا جبارا في حفظ القرآن الكريم، رافقه شيخه في رحلة حفظه طوال السنوات
الثلاثة، كان له نعم المعلم المرشد، ونعم الأب الحنون المربي، وتولاه برعاية خاصة
واهتمام كبير، لأنه ولسبب لا يعرفه أحبه كابن له، حتى صار واحدا من أنجب تلامذته
..
وكان من جميل الأقدار الربانية أن
وفقه الله أخيرا لإتمام حفظ المصحف كاملا .. فكانت فرحته أكبر من أن توصف، وسعادته
أعظم من أن تقاس .. لم يكمل استظهار آخر آية على شيخه حتى استأذنه وطلب منه أن
يسمح له بالذهاب إلى أمه لكي يزف إليها البشرى.. ربت الشيخ على كتفه وقال له، رضي
الله عنك يا ولدي، هيا اذهب بسرعة وبشر أمك فلسوف تكون مصدر فخر لها ..
انطلق يجري في خطى سريعة، وقد طغى عليه الفرح والحماس..
دخل إلى الكوخ وأخذ يصرخ، أمي أمي..لقد جئتك بالبشرى..جئتك بخبر سيفرحك كثيرا..
ولكنه صدم صدمة شديدة حين رآها ملقاة طريحة الفراش، وقد بدا عليها الشحوب والوهن،
وكان جبينها يتصبب عرقا..فقال لها مذعورا، ما بك يا أمي.. ماذا ألم بك؟ اقترب منها
ووضع راحة يده على جبينها، فوجدها تغلي من الحرارة، انتابه الخوف من أن يصيبها
مكروه.. فهرع مسرعا قافلا إلى البلدة ليأتيها بالطبيب.
********************
حين انتهى الطبيب من فحصها، توجه إلى سعيد وقال له وقد
بدا على قسمات وجهه علامات الأسى، إن أمك مصابة بمرض يصعب علاجه، وهو الذي تسبب
لها في هذه الحمى الشديدة، أسقط في يد سعيد لهذا الخبر المفجع، وجلس منهارا على
السرير، وقال للطبيب أي مرض هذا، فأجابه، إنه نوع من التقيح يصيب الحلق، و يؤسفني
ان أخبرك أنه بالنظر إلى عمر الوالدة، لا أظن أنها ستقوى على التحمل، وبتقديري لم
يتبق لها إلا أياما معدودة، إلا إذا تداركتها رحمة الله .. سأكتب لك الآن بعض
الأعشاب الطبية القوية، اقتنها من الصيدلية، وقم بإعطائها جرعات منها بعد كل وجبة
حسب ما سيصف لك الصيدلي بالتفصيل..
كان وقع هذه
الصدمة على سعيد أكبر من أن يحتمله..فبعد أن عثر على الأم الحنون التي حرم منها
العمر كله، يأتي الآن هذا المرض اللعين ليخطفها منه، كيف سيستطيع العيش وحيدا
بدونها، كيف سيتحمل الوحدة الكئيبة القاتلة .. ولكن رجع إلى نفسه واستغفر ربه،
واستسلم لقضاء الله وقدره .. مرت أيام وهو
لا يفارقها، يطعمها ويسقيها بيده، ويعطيها الدواء في أوقاته المحددة، ويفعل ما
بوسعه ليوفر لها أكبر قسط من الراحة.. كل هذا ولسانه لا يتوقف عن الدعاء لها بالشفاء،
إلى أن جاءت تلك الليلة الحزينة..
كان وجهها منيرا كالقمر، تمتمت بصعوبة قائلة بصوت واهن
متقطع، اقترب مني يا ولدي.. قرب أذنه إلى فمها، وقالت، لقد جاءني زوجي عمر في
المنام، وطلب مني أن أبلغك بشيء، شعر سعيد على وقع ما قالت كأن قلبه يريد أن يخرج
من مكانه، فرد عليها قائلا بصوت مرتجف، تبلغيني أنا؟؟ أنا .. أنا ..أريد أن أ أ
أقول ل ل.. لك ..قاطعته قائلة بنبرة منهكة ، نعم يا ولدي طلب مني أن أبلغك أنه قد سامحك، وأنه راض عنك كل الرضا..أخذت الدموع
تنهمر من عينيه بغزارة، وأقبل على يديها يقبلهما بحرارة ويقول، سامحيني يا أماه
سامحيني.. أرجوك قولي أنك سامحتني..قالت بوهن كبير، مهما فعلت يا ولدي فقد سامحتك،
وقلبي راض عنك كابن بار بي، عزيز على قلبي، قريب من نفسي.. تنفس بعدها الصعداء
وقال، الحمد لك ربي حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه ..
ثم رفعت سبابتها إلى السماء وتشهدت وفاضت روحها إلى خالقها
..
********************
عاش سعيد بعد هذه الفاجعة أياما حزينة كئيبة، اسودت في
عينيه الدنيا، وثقل همه واختفت بسمته، حتى أنه أصبح متهاونا في صلاته، قليل التردد
على المسجد .. وقد نفد وصية أمه ودفنها
إلى جوار قبر زوجها الشيخ عمر، وأضحى يمضي جل أوقاته قرب قبريهما يذرف الدموع، ويقرأ القرآن ترحما على
روحيهما..
سأله شيخه ذات مرة وهو خارج من المسجد، لم أعد أراك
كثيرا في المسجد يا سعيد، وحالك هذا ليس على ما يرام.. حاول أن يجيبه، ولكن شيخه
قاطعه متلطفا وقال، كلنا يعلم أن مصابك كبير، ولا مصيبة أعظم من الموت، ولكنك شاب
مؤمن، وتعلم أنه قضاء الله وقدره..عليك يا بني أن تتسلح بالصبر، وان تعتصم بالصلاة
والدعاء، وبكتاب الله، فهو حبل الله الممدود لعباده، وهو الشفاء لما في الصدور..
رد عليه سعيد قائلا ، يا شيخي، إن مصابي أكبر من أن يحتمل، لقد فقدت أمي التي لم
أكن أملك سواها في الدنيا، لقد عدت الآن وحيدا كما كنت في السابق، بدأت أشعر أن
حياتي بلا معنى، عقب عليه الشيخ معاتبا، كيف تقول أنك عدت وحيدا يا ولدي، ألست
تعتبرني أبا لك، وكل زملائك الطلبة ، أليسوا إخوانا لك؟ طأطأ سعيد رأسه خجلا وقال
، بلى يا شيخي، وهم بتقبيل يده، لكن الشيخ استوقفه وقال، اسمعني جيدا يا بني، لقد
فكرت مليا في أمرك ، ورأيت أن أبعثك إلى الجامعة في المدينة المجاورة، فما رأيك،
رد سعيد، أي جامعة يا شيخي؟ فقال، جامعة العلوم الشرعية، فأنت الآن حافظ للقرآن
الكريم ولله الحمد، كما أنك بت تملك مستوى لا بأس به في اللغة العربية، لأجل هذا
سأكتب رسالة لعميد الجامعة أطلب منه فيها أن يدرجك في صفوف الدراسة، وسوف أرفقها
بتزكيتي لك حتى تكون حظوظك أوفر ويتم قبولك، فما رأيك.. قال سعيد، لا أعرف كيف
أشكرك يا شيخي الجليل ولا كيف أوفيك حقوقك علي، أنا لا أستحق كل هذا الكرم، فانحنى
يقبل يد شيخه والدموع تنهمر من عينيه، والشيخ يقول وهو يربت على كتفه، بل تستحق كل
خير يا ولدي . كل خير ..
********************
مضت سنوات الجامعة سريعا، أخذ خلالها سعيد علما غزيرا ،
وجعل يرتقي في المراتب، مرتبة تلو مرتبة، ساعده ذكاؤه وقوة حفظه كثيرا للإلمام
والتمكن من عدة علوم ، كعلوم القرآن والفقه والسيرة النبوية وعلم الحديث، فعلا كعبه
في العلم وارتفع شأوه بين زملائه، وأحبه أساتذته، وداع صيته في الجامعة حتى أضحى الجميع
يتنبأ له بمستقبل مشرق وبلوغ منزلة العلماء في قادم أيامه ..
أنهى آخر مرحلة له في سنته
الخامسة والأخيرة، ونجح في كل الاختبارات بتفوق، فبلغ المرتبة الأولى في كل الجامعة
.. وكم كانت فرحته كبيرة وهو يتسلم
الجوائز من أساتذته الأجلاء ويسمع منهم عبارات الإعجاب والتنويه..قضى بعدها بين
أروقة الجامعة برفقة زملائه وأصدقائه أياما كلها فرح وسعادة .. تقدم بعد ذلك بأيام
هو وزملاؤه المتخرجين من الجامعة بطلبات التوظيف إلى وزارة الأوقاف، فتم قبول معظم
الطلبات، وتم تعيينهم كل حسب مرتبته ودرجته..
********************
ما إن تسلم وثيقة التعيين كإمام مسجد وخطيب
من الوزارة حتى أقفل عائدا إلى بلدته، فقد كان من حظه الطيب أن عين في نفس بلدته
التي نشأ فيها في مسجد هو الأكبر فيها ..
لاحت له من بعيد مشارف البلدة وهو راكب عربة
السفر في طريق العودة، فكان أول شيء فكر أن يقوم به هو زيارة قبر أمه فاطمة وزوجها
الشيخ عمر .. حط رحاله، واستراح قليلا في فندق البلدة بعد أن حجز فيه غرفة له، ثم
حمل حقيبة صغيرة، وانطلق قاصدا المقبرة.. وبينما هو سائر في الطريق خارج التجمعات
السكنية للبلدة، مر من أمام الشجرة التي شهدت ما ارتكبه في حق العجوز المسكين
الشيخ عمر، وتذكر كل تلك الأحداث التي جرت في الأيام الخالية، وانتابه شعور بالألم
والحزن، وجعل يستغفر ربه ويتوسل إليه أن يتجاوز عنه ما ارتكبت يداه.. وبينما هو
مستغرق في همه، سادر في ندمه إذ أقبلت
عربة يجرها حصان، يبدو من مظهرها الأنيق الجميل أن صاحبها ذو ثراء، وعلى متنها
يركب رجل كبير في السن بلحية بيضاء تتخللها بعض الشعيرات السوداء، وإلى جواره تجلس
فتاة يافعة، بشرتها بيضاء كالحليب وشعرها اسود كالليل البهيم، آية في الحسن
والجمال، ما إن التقت عيناهما حتى طأطأت رأسها حياءً و غطت وجهها بطرف ثوبها
المنسدل كأجنحة الحمام، أما هو فقد شعر بسهم حلو لذيذ قد انغرس في سويداء قلبه ..
ارتعشت نفسه، واحمر وجهه وأحس بنفسه لوهلة كأنه ريشة تتقاذفها النسمات يمنة
وشمالا.. مضت العربة في طريقها ومضى هو في سبيله .. ولم يسر إلا خطوات حتى سمع
جلبة وصراخا، استدار بسرعة فرأى ثلاثة رجال يحملون عصيا يحيطون بالعربة ويهددون
أصحابها، فجعلت الفتاة تصرخ خوفا وهلعا، انطلق نحوهم يجري بقوة، وتعرف عليهم
بسرعة، إنهم أصدقاؤه القدامى، رفقاء السوء الذين كان في يوم من الأيام واحدا منهم
.. فوقف عندهم وطلب منهم أن ينصرفوا ويتركوا الرجل وابنته بسلام، رفضوا وطلبوا منه
ألا يتدخل وإلا سيصيبه منهم أذى كبير، فما كان منه إلا أن فاجئ أحدهم بلكمة في وجهه أسقطته أرضا، وبحركة سريعة مباغتة ضرب
الثاني بركلة في صدره فقذف به إلى الخلف، وفي خضم الاشتباك جاءه الثالث من الوراء
فغرس في ظهره خنجرا ثم لاذ بالفرار، نهض الآخران من على الأرض، ومن هول ما رأياه
ركضا في ذعر مبتعدين عن المكان.. أما هو فقد سقط على الأرض مضرجا بدمائه .. أصيب
العجوز بالفزع من هول ما وقع، و دخلت ابنته في نوبة من البكاء الهستيري والصراخ،
لم يدر الرجل ماذا يفعل، هل يهدأ ابنته المرتعبة أم يسرع إلى الشاب لكي ينقده من
الخطر.. وثب من العربة، وراح يهرول جهة الجريح، وحمله بصعوبة ثم طلب من ابنته أن
تساعده، فرفعاه بمشقة إلى العربة ثم انطلقوا مسرعين إلى البلدة، والحصان يصهل
متألما من وقع السوط على رقبته ويجري بأقصى ما لديه من سرعة.
********************
وصلوا إلى المشفى، فأخذ العجوز يصرخ طالبا
المساعدة، تقدم نحوه ممرضين فسألاه ما الخبر، فقال لهم، معي شاب جريح أصيب بطعنة
في ظهره، وقد فقد كثيرا من الدماء، فأسرعوا إليه وحملوه في نقالة ثم أدخلوه إلى
المستشفى في غرفة العمليات، أخبروا الطبيب بسرعة ثم شرعوا في القيام بما يجب
لإنقاذ روح الشاب الذي ضحى بنفسه من أجل إنقاذ أشخاص لا يعرفهم.. ظل في غرفة
العمليات لمدة ثلاث ساعات كاملة، أجرى له خلالها الطبيب بمساعدة ممرضيه عملية
جراحية معقدة،و نجح بتوفيق من الله في إخراج الخنجر وإيقاف النزيف، ثم قام بتقطيب
الجرح الغائر وتضميده.. أنقذ حياته التي كانت على المحك، فلو كان تأخر السيد ولو
قليلا في إحضاره إلى المشفى لكان فقد حياته إلى الأبد، ولكن عناية الله كانت حاضرة
معه، وأجله لم يحن بعد..
خرج الطبيب من غرفة العمليات فوجد الرجل
المسن ينتظر عند الباب متلهفا يكاد يأكله الخوف والقلق، فقال له، اطمئن يا رجل فقد
تجاوز الجريح الخطر ولله الحمد، ولكن يجب أن تبلغ الدرك بإفادتك وسأكتب لك شهادة
طبية لكي ترفقها بشهادتك، أجاب الرجل الطيب، الحمد لله كثيرا، لقد أرحت قلبي يا
سيدي، فهذا الشاب قد رمى بنفسه إلى الخطر لكي ينقذني وابنتي دون حتى أن تكون بيننا
سابق معرفة. ، سوف أتوجه بعد قليل إلى مخفر الدرك وأقدم لهم إفادتي وأصف لهم شكل
الجناة المجرمين حتى يقوموا بما يلزم لإلقاء القبض عليهم وإنقاذ البلدة من شرهم،
سأله الطبيب عن اسمه، فقال اسمي السيد رضوان، وأقطن ببلدة " الحامدية " ، هي ليست بعيدة كثيرا عن هذه البلدة، فرد عليه
الطبيب، نعم نعم أعرفها، ثم توجه إليه السيد
سائلا ، هل تسمح لي أن أدخل لأراه، رد عليه الطبيب، مسموح لك بذلك ولكن لا تتعدى
خمس دقائق، ولا تحاول أن تكلمه لأنه الآن في حالة ضعف شديد ويحتاج إلى الهدوء و
الوقت لكي يسترد قوته.. دفع الباب بهدوء كبير ثم دخل في خطوات بطيئة واقترب منه،
فوجده مستلقيا على بطنه وقد ضمد جزء كبير من ظهره بالضمادات، جعل يتفرس فيه فلمح
شيئا على كتفه الأيمن .. وحمة سوداء على شكل هلال.. قال في نفسه، يا الله هل هذا
معقول، مرر أصبعه فوق الوحمة ليتأكد إن كانت كذلك أم هي مجرد شيء عالق، فتأكد أنها
وحمة .. انتقل إلى الجهة الأخرى من السرير، وأخذ يدقق في وجه الشاب، فقال بصوت
هامس، سبحان الله .. سبحان الله، هل يمكن لشيء كهذا أن يكون حقيقة، إنه هو، هو
بنفسه ..
********************
مضت أيام وسعيد راقد في المشفى، يتجرع الآلام
المبرحة ويمضي الليالي الطوال لا ترى عيونه النوم فيها أبدا، عاني فيها كثيرا،
وقاسى طويلا، فالجرح كان غائرا عميقا،
والطعنة قاسية غادرة، ولولا تدخل العناية
الربانية لكان فارق الحياة إلى الأبد ..
ولكن في وسط هذه المحنة العظيمة والمعاناة
الشديدة، وجد بعض السلوى والعزاء في زيارة أحبابه وأصدقائه له، وعلى رأسهم شيخه الحبيب،
أستاذه وأبوه الروحي، الذي تعهده طوال فترة مكوثه في المشفى بالرعاية والعناية والدعم النفسي، وأيضا زملائه القدامى
في المسجد الذين ما فتئوا يرفهون عليه
ويؤنسوا وحشته، ويضحكوا سنه بدعاباتهم وشغبهم، وحتى السيد رضوان فقد كان لا يمضي
يوم إلا ويأتي لزيارته والسؤال عن أحواله..
أمضى شهرين في المشفى، أخذت خلالها صحته
تتحسن يوما بعد يوم، فعادت لوجه نظارته ولجسده عافيته وتماثل للشفاء، وجاء ذاك
اليوم المشهود، اليوم الذي لن ينساه أبدا..آخر يوم له في المشفى.
********************
في ذلك اليوم المشمس الجميل، اجتمع عنده في الغرفة كل أحبابه وأصدقاؤه، وكان الجميع فرحون مبتهجون، يهنئونه بشفائه
ويدعون له بدوام العافية، ورفقاؤه الشباب يداعبونه ويمازحونه في صخب وجلبة ..و
فجأة رفع السيد رضوان يده إلى الأعلى مشيرا إليهم ليهدؤوا، فعم الصمت في الغرفة
لبرهة، ثم اقترب من سعيد وقال بصوت جاد وقوي ونظره لا يفارقه، استمعوا إلي يا
أحباب، وأعيروني اهتمامكم جيدا، سأخبركم اليوم بأمر عجيب لم تسمعوا بمثله من قبل،
أمر يخص هذا الشاب الجميل، سعيد الرجل المقدام الجسور، نظر إليه سعيد مندهشا
مستفهما، فأردف السيد رضوان قائلا، سعيد
هذا يكون ابن صديقي ورفيق صباي السيد علي .. ارتفع حاجبا الشيخ الإمام دهشة فقال، ولكننا لا نعرف
سعيدا إلا شابا مقطوعا من شجرة لا أهل له ولا أقارب، كيف عرفت أنه ابن صديقك وأنت
لم تره إلا مؤخرا، أجابه بلهجة قوية واثقة، عرفته يا أخي من وحمة سوداء في كتفه، لها شكل مميز.. شكل هلال، هيا يا سعيد يا
بني ارفع القميص عن كتفك وأرهم الوحمة .. دون تردد أو تفكير قام سعيد بنزع قميصه،
فرأى الجميع الوحمة بادية واضحة على كتفه مثلما وصفها لهم السيد، فتعجبوا وقالوا
سبحان الله .. أخذ الشيخ يدرع الغرفة جيئة وذهابا ويحك ذقنه بسبابته مفكرا، وفي
لحظة استدار نحو السيد رضوان فقال له، هذا غير كافي، فقد يكون الأمر مجرد مصادفة،
رد عليه السيد رضوان، لا يا أخي ليست مصادفة، فقد تأكد لي الأمر بعد أن رأيت الشبه
العظيم بين سعيد ووالده، شبه كبير لدرجة
تجعلك لا تخطأ.. اعتدل سعيد في جلوسه وقال وقد تيقظت كل حواسه، هل ما تقوله صحيح
يا سيدي، هل أنت متأكد، أجاب السيد مطمئنا،
انا متأكد مما أقول يا ولدي تمام التأكد، فأنت ابن أخي وصديق عمري ورفيق صباي
السيد علي عليه من الله الرحمة والرضوان، ألا تتذكر كم كنت ألاعبك وأنت طفل صغير،
وكم كنت أخذك معي في جولات إلى السوق والمزارع، كنت أحبك كابن لي، أنا لم أنجب إلا
البنات، فكنت أنت الابن الذي لم أنجبه، نهض سعيد من مجلسه ووضع يده على كتف السيد
رضوان وقال بنبرة تحمل في طياتها كل معاني الحسرة والشوق، حدثني قليلا عن أبي يا
عم، أجابه قائلا بعد أن ربت على كتفه مواسيا، كان والدك رجلا صالحا تقيا ورعا،
يضرب به المثل في الصدق والإخلاص وعلو الخلق، كان كل أهل البلدة يحبونه ويحترمونه،
حتى أن كثير منهم كانوا يحتكمون إليه في منازعاتهم، وكان حاملا لكتاب الله واسع
الإطلاع والمعرفة بشؤون الدين والدنيا .. واسترسل الشيخ في حديث طويل يحدثهم عن
مناقب السيد علي وأحواله، وعن العلاقة المتينة القوية التي كانت تربطه به .. سأله
مرة ثانية، حدثني يا عم عن والدتي، أنا لا أتذكرها أبدا، أجابه، نعم يا ولدي لن
تستطيع تذكرها لأنها توفيت وهي تنجبك، كانت أيضا امرأة صالحة صوامة كثيرة الصدقة،
وكانت تحب الأيتام كثيرا وتعطف عليهم وتغدق عليهم بكل ما تستطيع من طعام ولباس،
حتى أسموها في البلدة بأم الأيتام .. بعد وفاتها تولى والدك رعايتك وتربيتك لوحده،
كان لك أبا وأما ولم يقصر نحوك في شيء .. كان حمله ثقيل جدا، ولكنه لم يشتك إلى
أحد أبدا، كنت أستطيع أن استشف من نظراته
مقدار الحزن الذي عصف بقلبه بعد أن فقد زوجته ورفيقة دربه، وأدرك كم كان يقاسي وهو
يحاول أن يملأ مكان أمك التي فقدتها فلا تشعر بألم فقدانها، أتذكره الآن وهو جالس في صحن منزلكم وقد وضعك
فوق فخده وأنت صغير لم يتعد عمرك خمس سنوات، يلاعبك ويلهو معك، وأنت تعبث بلحيته الرمادية
المتدلية وهو يبتسم في غبطة وسعادة، ولسانه لا يفارق ذكر الله وحمده وتسبيحه..
وجاء يوم، وأصيب
والدك بمرض عضال ألزمه الفراش لمدة، لم تفلح كل الأدوية والعلاجات في جعل صحته تتحسن،
ولم تمض إلا أيام حتى فارق الحياة، وودعنا صديق طيب كريم نحبه كثيرا ونحترمه ..
وكان ألم فراقه كبيرا جدا عليً وعلى كل أهالي البلدة ..سقطت دمعتين كبيرتين من عيني سعيد،
ثم أجهش بالبكاء، وعم حال من الحزن والحسرة في كل
الحضور، فجعلوا يهدئوه ويواسوه .. وقال الشيخ الإمام داعيا، نسأل الله جل في علاه
أن يجعل مثواه الجنة ويرفعه إلى أعلى عليين مع الأنبياء والصديقين والشهداء
والصالحين وحسن أولائك رفيقا، ردد الجميع، آمين..آمين .
قال الشيخ للسيد
رضوان مستفهما، ولماذا لم ينشأ سعيد في البلدة التي ولد فيها، ماذا حصل بعد وفاة
والده، أجابه، بعد وفاة السيد علي أقيمت جنازته، وكانت جنازة كبيرة مهيبة، حضرها العديد
من أهالي البلدة، وكان الازدحام كبيرا في الدار وما حولها، وفي وسط كل ذلك اختفى
سعيد عن الأنظار، ولم يعلم أحد أين ذهب، بحثنا عنه في كل مكان وأبلغنا الدرك، ورغم
كل الجهود التي بدلت في البحث لم نعثر له على أثر.. كان قول معظم الناس أنه هام
على وجهه في البرية بعد أن علم أن والده قد مات ولم يتحمل الصدمة، وربما قد تاه ولم
يعرف طريق العودة، فقادته أقدامه إلى بلدة أخرى أو.. قال سعيد، هذا ما وقع بالفعل،
لا زلت أتذكر أني في ذلك اليوم قد رحت أهرول بدون هدف، والدموع تنهمر من عيني، لم
يتحمل قلبي الصغير صدمة فقدان الأب، نعم لا زلت أتذكر بعضا من ملامح أبي، أتذكر
وجهه البشوش ولحيته الرمادية المشعة ، عرفت يومها أنه قد مات ، وأحسست أني بقيت
وحيدا في هذه الحياة ولم يعد لي مكان بين الناس، فقررت بتفكيري الصبياني حينها ان
أفر وأعيش وحيدا في البراري.. سرت لأيام وليالي في الأقفار والفيافي، آكل من خشاش الأرض
وما تصله يدي من ثمرات هنا وهناك إلى أن قابلت راعي غنم، استغرب حين رآني وحيدا تائها في ذلك المكان، وسألني
ابن من أكون، فأخبرته أن والدي قد مات، وأقاربي كلهم ميتين ولم يبق لي أحد منهم،
فرق قلبه لي .. أخذني معه إلى هذه البلدة،
وتلطف علي ببعض الطعام والشراب واللباس وقال لي اهتم بنفسك يا بني وليكن الله في
عونك.. ومنذ ذلك الوقت وأنا أعيش في الشوارع والأزقة، أفترش الأرض وألتحف السماء،
وتحولت حياتي إلى قطعة متواصلة من الجحيم، عايشت فيها كل ألوان العذاب، أعيش على
الصدقات وعطف الناس، وآكل من المزابل حين تقسوا علي القلوب ولا أجد من يعطيني كسرة
خبز أسد بها جوعي، مرت السنوات وتعلمت خلالها عددا من المهن، تعلمت الزراعة
والنجارة والحدادة والصيد، ولكني لم أكن أستمر في واحدة منها، كأني كنت لا أطيق
الاستمرار في مهنة واحدة، لم أجد نفسي في أي واحدة منها، واشتد عودي و تعرفت على جماعة من الأشرار،
يحترفون اللصوصية والسطو على ممتلكات الغير، استغلوا حاجتي وضعفي وجهلي فضموني
إليهم، وصرت مثلهم لصا معتديا، ارتكب معهم الكثير من الآثام والعدوان، بقيت سجينا
في ذلك المستنقع الآسن إلى أن ارتكبت آخر عدوان لي على شخص ضعيف فقير، فكان ذلك
سبب توبتي وانقلاب حياتي، وكان من حسن حظي أن أعثرني الله في شيخي الجليل الذي كان
لي نعم الأب والمربي، وقد علمني بكل ما آتاه الله من علم كيف أعيش نظيفا صالحا،
وكيف أتنفس هواء نقيا بعيدا عن أهواء الشيطان وغوايته، أجاب شيخه، أستغفر الله يا
بني، إنما أنا سبب من الأسباب، هيأه الله لك في طريقك، ولو لم يعلم الله في قلبك
خيرا، لما تفضل عليك بالتوبة والهداية .. أنت يا بني درس حي لنا جميعا، درس نتعلم
منه، ولتتعلم منه أجيالنا أيضا .. تأملوا إخواني .. تأملوا كيف أن الله تبارك
وتعالى قد أنقد هذا الشاب وانتزعه من براثن الشر والفساد ببركة صلاح و دعاء والديه
الفقيدين عليهما من الله الرحمة، ذلك الرجل الصالح المؤمن التقي، وتلك المرأة
الصوامة المحسنة إلى الأيتام، وقد صدق الله إذ قال: " أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ
يَحْزَنُونَ ". لا خوف عليهم في الآخرة من عقاب الله ، لان الله رضي عنهم
فآمنهم من عقابه وسخطه، ولا هم يحزنون على
ما فاتهم من الدنيا ولا على أهليهم وأبنائهم الذين تركوهم خلفهم من أن يضلوا
ويضيعوا، إذ الله يتولاهم من بعدهم ويتعهدهم برعايته وهدايته وتوفيقه.. تأملوا كيف
تحول هذا الشاب من لص معتدي إلى رجل ذو علم وخلق ومكانة، ووفقه الله أن يصير إماما
لأكبر مسجد في البلدة، وخطيب مفوه، ومحدث بليغ.. تمتموا جميعهم في تاثر ودهشة، سبحان الله العظيم .. وقال أحد
الطلبة، حقا إنها وقائع أغرب من الخيال، ولو لم نكن نعرف صدق ومروءة السيد رضوان
لوجدنا صعوبة في تصديقها، قال رضوان، الحمد لله أن عاقبة كل ما مضى خير، ونتوسم في
المستقبل خير أكبر إن شاء الله، ثم توجه إلى سعيد قائلا، ولتعلم يا بني أن أبوك
رحمه الله كان يملك منزلا ومزرعة كبيرة، وقد تعهدت بحفظهما لك و حراستهما من
اللصوص والمعتدين على أمل أن ألتقي بك في يوم من الأيام، فهما لك الآن وتستطيع ان
تستلمهما من القاضي بعد أن أدلي مع بعض أهالي البلدة بالشهادة لصالحك، شد سعيد على
يد السيد بقوة وقال له، لا أعرف كيف أشكرك يا عمي .. لقد بدلت جهدا عظيما لكي
تحافظ على أموالي، والله وحده يقدر أن يجازيك على هذا الجميل والإحسان، رد عليه،
بل هو واجب وأمانة كانت في عنقي، وقد آن الأوان أن أتخفف منها، وليبارك لك الله في
مالك وصحتك ويزيدك نعيما فوق نعيم .. تحلق الجميع حول سعيد وراحوا يهنئونه
ويباركون له في بهجة وسعادة .. وهو يرد عليهم بالعناق وحلو الكلام وطيبه ..
********************
مرت أيام بعد ذلك، وذهب سعيد برفقة شيخه الإمام عند السيد رضوان في
منزله، وتقدم لخطبة ابنته المصونة، ذات الخلق والدين، والحسن والجمال، فوافق بكل
فرح وسعادة، وبارك لهما هذه الزيجة.. ولم يمض إلا وقت يسير حتى أقيم لهما عرس
كبير، هلت فيه الأنوار وارتفعت الزغاريد، وقدمت الولائم للأهل والأحباب والأصدقاء،
وأقيمت فيه الاحتفالات .. ومضى يوما بهيجا
جميلا عمت فيه الفرحة والسعادة في قلوب الجميع.
وعاش الزوجان في ثبات ونبات، وأنجبوا صبيان وبنات، ودامت لهما الأفراح
والمسرات .
ـــ نهاية القصة ـــ